13/08/2022 - 21:42

حوار مع د. رضا إغبارية | اللهجة الفلسطينية بين موروث المكان والتجدد العصري

وقد رجعت إلى جذور اللهجة الفلسطينية وتتبعت أصول كلماتها ومصطلحاتها وأجريت شبه إحصاء حول نسب الكلمات والمصطلحات التي دخلت إلى لهجتنا الفلسطينية من كل لغة من الحضارات القديمة واللغات الحديثة التي مرت على هذه البلاد وتمازجت مع شعبها، ووجدت أن

حوار مع د. رضا إغبارية | اللهجة الفلسطينية بين موروث المكان والتجدد العصري

(Gettyimages)

يقول د. مصلح كناعنة، الباحث والمحاضر في علم الإنسان بجامعة بير زيت، إنه لا يعتبر علاقة العامية الفلسطينية بالعربية الفصحى كعلاقة الفرع بأصله، كما يعتقد معظم الناس وكما يدعي معظم أساتذة اللغة العربية والنحويين العرب، ذلك لأن اللغة العربية جاءت إلى أهل فلسطين في وقت متأخر جدًا مقارنةً بعراقة موروثهم اللغوي والحضاري، وكانوا حينئذٍ يتكلمون لغة هي مزيج من الكنعانية والآرامية والسريانية كانت قد تطورت لديهم عبر أكثر من ألفي عام، فدمجوا اللغة العربية القادمة إليهم من جزيرة العرب، وذهبوا بها مذهب كلامهم وطوَّعوها لقواعدهم في النطق واللفظ والنحو والصرف والإنشاء.

ويدعي د. كناعنة أن أهل فلسطين يتكلمون العربية بالعامية... لأنهم يتكلمون العربية مخلوطة بموروثهم الثقافي ما -قبل- العربي ومجيَّرة لعاداتهم اللغوية التي دأبوا عليها لمئات السنين، وأنهم ظلوا يتكلمون الآرامية والسريانية (واليونانية في منطقة الساحل) لعدة قرون بعد وصول عرب الجزيرة إليهم وتعريبهم، وذلك على الرغم من فرض اللغة العربية عليهم في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 - 705م) الذي أصدر مرسومًا بفرض اللغة العربية على رعايا الدولة الإسلامية، ومنعهم من استخدام لغاتهم الأصلية في التداولات الشفوية والكتابية.

وحتى منتصف القرن الثالث عشر، كان سكان فلسطين يتكلمون الآرامية أو السريانية في بيوتهم والعربية في الفضاء العام (كما يفعل الأرمن والشركس في فلسطين حتى يومنا هذا)، ولم يتم القضاء نهائيًا على الآرامية والسريانية كلغة محكية في فلسطين إلا في نهاية فترة الحروب الصليبية.

في المحصلة فإن الفلسطينيين عرب يتكلمون العربية، ما في ذلك شك، يقول كناعنة، ولكننا لسنا عربًا فحسب بل أكثر من ذلك وأعرق من ذلك بكثير، فقد ورثنا في وعينا وثقافتنا ولغتنا وطقوسنا وممارسات حياتنا إرث أقوام وحضارات تضرب جذورها في عمق أعماق التاريخ البشري، وتلاقت في جيناتنا وكلماتنا ومعارف حياتنا شعوب الشرق والغرب عبر آلاف السنين. وليس كل ما هو غير عربي في عاميتنا الفلسطينية العربية لحنًا أو تشويهًا أو خرقًا لأصول العربية الفصحى، وإنما هو في الحقيقة كنز حضاري معرفي يجب أن نعرفه ونعترف بقيمته ونعطيه حق قدره، كما يقول.

كتاب د. رضا إغبارية "قاموس اللهجة الفلسطينية" الذي صدر حديثا، جمع وأشار إلى مئات الكلمات والمصطلحات ذات الأصول الكنعانية والآرامية والسريانية وغيرها من لغات الحضارات القديمة التي دخلت إلى العامية الفلسطينية وامتزجت بها وأصبحت جزءا أصيلًا منها، وهو يشير بالنسب إلى ما يقارب 30-40% من الثروة اللغوية للعامية الفلسطينية قدمت إليها من لغات قديمة، كنعانية، سريانية وآرامية وحديثة، مثل التركية والإنجليزية وحتى العبرية بفعل التداخل الذي فرضته الظروف السياسية مع تلك اللغات.

أستاذ اللغة العربية د. رضا إغبارية

حول الكتاب وسر انفتاح "اللغة" العامية الفلسطينية على الثقافات الأخرى القديمة والحديثة كان هذا الحوار مع أستاذ اللغة العربية د. رضا إغبارية.

"عرب 48": كتاب"قاموس اللهجة الفلسطينة" الذي صدر حديثا، يأتي بعد كتابك "المبين في أمثال فلسطين" الذي ضم مجموعة كبيرة من الأمثال والمصطلحات الفلسطينية أيضا؟

إغبارية: في كتابي "المبين في أمثال فلسطين" جمعت 2800 مصطلح فلسطيني، وفي كتاب "قاموس اللهجة الفسطينية" جمعت ثلاثة آلاف مادة، كل مادة تتفرع من كلمات وجذور مختلفة، ووضعت معاني للكلمات باللغة الفصحى حتى إذا ما قرأ الكتاب شخص من مغربنا أو مشرقنا العربي يفهم مقاصده.

وقد رجعت إلى جذور اللهجة الفلسطينية وتتبعت أصول كلماتها ومصطلحاتها وأجريت شبه إحصاء حول نسب الكلمات والمصطلحات التي دخلت إلى لهجتنا الفلسطينية من كل لغة من الحضارات القديمة واللغات الحديثة التي مرت على هذه البلاد وتمازجت مع شعبها، ووجدت أن 5.3% من كلمات ومصطلحات لهحتنا الفلسطينية هي سريانية الأصل، على سبيل المثال؛ كلمة "بطانية" التي تجمع "بطانيات" أو "بطاطين"، هي سريانية. كلمة "برش"، حيث نقول "برش الليمون" هي أيضا سريانية. كلمة "بحبش" بمعنى فتش بإلحاح هي سريانية.

أما الآرامية فإنها تحتل 4.6% من مفردات اللهجة الفلسطينية، وعلى سبيل المثال؛ فإن كلمة "البص" بمعنى الأرض المغرقة بالماء والمشتق منها اسم "البصة" المهجرة هي آرامية، وكلمتي "جواني" و"براني" هما أيضا آراميتان. "البد" بمعنى معصرة الزيتون هي أيضا آرامية وأصلها كنعاني وهي مستعملة بالعبرية أيضا. كلمة "أشر"، "مؤشر" آرامية وكلمة "باقية" أيضا آرامية.

"عرب 48": بعض تلك الكلمات دخلت إلى العربية الفصحى أيضا وجرى تعريبها؟

إغبارية: صحيح، هناك الكثير من الكلمات الأجنبية التي دخلت الفصحى وجرى تعريبها، إلا أن الكلمات والمصطلحات التي دخلت إلى اللهجة العامية الفلسطينية هي أكثر بكثير، لأنها تستطيع استقبال الكلمات الوافدة بدون شروط بعكس الفصحى التي تستقبل ولكن بشروطها وبعد إخضاع الكلمة لقوانينها أي بعد تعريب الكلمة وتطبيق قواعد الصرف والنحو عليها، لذلك تبقى العامية أكثر قابلية لاستيعاب المصطلحات والكلمات الوافدة من ثقافات ولغات الشعوب التي اختلطت بها العربية، وربما هي أكثر تعبيرا عن الهوية الثقافية لأهل البلاد.

وبالرجوع إلى النسب التي بدأت بالحديث عنها فإن 2.7% من المفردات العامية الفلسطينية هي يونانية الأصل، فمثلا كلمة "وقية" بمعنى ربع كغم هي يونانية، وكلمة "مسطرينا" التي يستعملها البناؤون هي يونانية أيضا وكذلك "المرمر" وهو نوع من الرخام و"المخل" وهو أداة حديدية طويلة تستعمل لزحزحة الحجار الكبيرة.

وللكنعانية نصيب كبير في لهجتنا الفلسطينية بل أن الكثير من المرادفات التي نسبت إلى اللغات الأخرى ربما يكون أصلها كنعاني، وعلى سبيل المثال كلمة "جوا" بمعنى الداخل هي كنعانية فينيقية، وكلمة "هيك" هي كنعانية أوغاريتية، كذلك كلمة "نذر" بمعنى قطع وعد بتقديم قربان أو غير ذلك، وكلمة "لكان" أيضا كنعانية أوغاريتية، وكلمة "كيلة" بمعنى الوعاء الذي كانوا يغرفون به المياه من "الخابية" هي كنعانية من أصول بابلية.

"عرب 48": جمعت أيضا كلمات من اللغات الحديثة التي دخلت إلى اللهجة الفلسطينية وخاصة التركية والإنجليزية؟

إغبارية: صحيح، هناك الكثير من المصطلحات من اللغات الحديثة مثل التركية والفارسية والإنجليزية والفرنسية ومؤخرا العبرية، فالتركية نسبتها 10.5% من اللهجة الفلسطينية وهناك الكثير من المفردات الشائعة مثل "الخان" و"الحنطور" والتي هي مجرية بالأصل ودخلت على اللغة التركية، إضافة إلى "الجمرك" و"الجنزير" و"الجنديرمة" بمعنى الشرطة، و"الجفتلك" بمعنى المنطقة الزراعية الخصبة و"الجزمة" و"الجزدان" و"الجردل" و"الجرانك" و"التنكة" و"التنورة"، ناهيك عن الألقاب مثل "الباشا" و"البيك" و"الخانوم" وغيرها.

الفارسية لها نصيب أيضا في لهجتنا الفلسطينية، حيث تحتل 6.2% منها، كما أن بعض الكلمات التركية التي دخلت إلى اللهجة الفلسطينية أصولها فارسية، وعلى سبيل المثال كلمة "خربش" و"خربوش" أصلها فارسية "الخرج"، "الخنجر"، "خردق" بمعنى جعل الشيء مليئا بالثقوب، "خواجة"، "خوش بوش" وغيرها.

كذلك الفرنسية تركت الكثير من مفرداتها في لهجتنا الفلسطينية ويبدو أن ذلك حدث بتأثير الاستعمار الفرنسي للبنان وسورية، وتبلغ نسبة الكلمات الفرنسية في اللهجة الفلسطينية 6.5% وعلى سبيل المثال فإن كلمات مثل "جرسون"، "جاتوه"، "جاط" و"تواليت" هي فرنسية.

وهناك كلمات المانية أيضا دخلت إلى لهجتنا ولكن بنسبة أقل تبلغ 1.2% منها "مرتبان"، "نيروستا"، "فين" بمعنى تمليس الشعر و"كربج" بمعنى توقف المحرك عن العمل.

"عرب 48": الإنجليزية لها نصيب مرتين الأول بسبب الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدور الفلسطينيين فترة من الزمن، والثانية بسبب هيمنة اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العولمة اليوم؟

إغبارية: صحيح، ولهذا السبب تحتل اللغة الإنجليزية 10.7% من كلمات اللهجة الفلسطينية، وهناك مفردات مثل "أكزي" بمعنى ابتعد و"الجل" الذي يستعمل للشعر و"الجير" و"الجاكيت" و"الجلن" و"الجك" و"الجريفوت" و"الكوبانية" و"الاصبتار" بمعنى مستشفى و"الكم" بمعنى معسكر، ويمكن تمييز المفردات التي ورثناها من الاستعمار البريطاني وبين تلك التي دخلت إلى اللغة العربية بفعل هيمنة اللغة الإنجليزية حديثا.

"عرب 48": هل فحصت اذا كانت تلك الكلمات قد دخلت الفصحى أيضًا؟

إغبارية: كما ذكرت، استيعاب الفصحى للكلمات الوافدة هو بشكل اقل بكثير ولكن هناك الكثير من الكلمات والاسماء التي جرى تعريبها، وخاصة التي تتعلق بالاكتشافات الحديثة، مثل الراديو والتلفزيون والكمبيوتر وغيرها.

"عرب 48": وماذا بشأن العبرية؟

إغبارية: العبرية تحتل 4.5% من لهجتنا الفلسطينية وقد اعتمدت في بحثي بخصوص العبرية على كتاب الدكتور فاروق مواسي "البديل من العبرية: كلمات عربية مقترحة لألفاظ عبرية شائعة"، علما أن واقع تداخل العبرية باللهجة الفلسطينية ما زال متحركا أو عائما وتبرز إلى جانب الكلمات التي تستعمل، نتيجة الاحتكاك في العمل وفي التعليم ولعل من أبرز الكلمات الشائعة على مستوى الوطن الفلسطيني "محسوم" و"رمزور" و"مشمار جفول".


د. رضا إغبارية: أنهى اللقب الأول والثاني والثالث في اللغة العربية وأدابها في جامعة حيفا، كتب رسالة الدكتوراه في موضوع: "الأدب الأخلاقيّ. أنس المنقطعين لعبادة ربّ العالمين". عمل مدرسًا للغة العربية في العديد من المدارس والكليات والجامعات بينها كلية القاسمي، جامعة حيفا وجامعة النجاح الوطنية.

يرأس حاليا قسم اللغة العربية في كلية سخنين لتأهيل المعلمين ويعمل محاضرا فيه. له العديد من الإصدارات بينها "أنس المنقطعين لعبادة ربّ العالمين (مجلدان)، للمعافى إسماعيل الموصليّ، دار الكتب العلمية، بيروت "المبين في أمثال فلسطين: 2800 مثل وكناية وتعبير ومصطلح على الألسنة الفلسطينيّة" (مجلّدان). مكتبة كلّ شيء، حيفا.

التعليقات